البحّة

في الأمس كنا في أوج العدوان الوحشي على بلدي، وكان جسمي يحاول التّأقلم مع فكرة أنّ الموت سيطرق بابه في أيّ لحظة. أمّا اليوم، وأنا أكتب هذا المقال، أطلب منه بكلّ وقاحة التّخلي عن خوفه والانقضاض على الخلق الفنيّ. فأحاول الاعتصار من مشاعري ما يمكن للتعبير عن واقع حالي ككاتبة تحاول إعادة الإبداع الذّي لطالما حضر في حياتها. فالإبداع والخلق حالتين، كما يعرف من يمارسهما، لا تتواجدان في مكان يمسك به القلق زمام الأمور. فالفنّ، بالرّغم من جماله وبلاغته، قبيح وسخيف الوجود في حضور الموت.

مع ذلك يحاول الغرب اعتصاره من مآسينا.

فيقتلنا، من ثم يجمع جثثنا التّي لم تبرد بعد. يوقفها أمام الكاميرات لتخبر عن حوادث موتها، ويجبرها على البكاء عند ذكرها للعذاب الذّي تعرّضت له. ففعليًا، الدّموع تعجب المشاهد، وحشرجة الميت وأعضاءه المتناثرة تحرّك المشاعر أكثر بكثير من تذمّر حيّ كامل الجسد. فالفلم بالتصوير "الواقعيّ" هذا لا بدّ أن يرقى رواجًا، ويعجب طالبي المشاعر، فيكون له مردود مادي مرتفع.

فيقتلوننا طمعًا بالمال، ومن ثم يستخرجون من طهارة أجسادنا دمًّا يلوّنون به أحلامهم الورديّة التي تعرض في صالات الجوائز العالمية. ويتغندرون فيها بين أقرانهم بفخرهم بإنسانيتهم الزّائفة، وشجاعة موقفهم مقارنة بجشع مواقف حكوماتهم. أو لم يخبرهم أحدهم أنّ الفرق بين الشّجاعة والجشع تعثر أحرف تخفيها بعض مساحيق التّجميل السّينمائيّ؟ أو لما لم يخبرهم أحدهم أن تلك المساحيق لم تخف شيئا؟  فرغبة الفنان في التّحول إلى نجم، ولو زين شجرة عيد علت بتكوّم جثث "بلاد العالم الثّالث"، واضحة رغم تزعمه الأخلاق.

فأين الأخلاق في اغتصابه مآسينا ليَلِد منها "الفن"؟

يدعي أنّ المآسي أفضل أمهات الإبداعات. فإن كان صحيحًا، ألم يكن من الأسهل أن ينقل هذه الأمهات إلى بلاده، فيرضعن الفنّ أوجاع ناسهم، بدل أن يقتات على أرواح ناسنا؟ أما كان سيسهلّ ذلك عليه الاغتصاب، ويقلّل تكاليف المستشفيات والأطباء النّسائية في البلاد الغريبة؟ فلو جلس أمام فم المسدس بدل أن يجلس خلف عدسات الكاميرات، هل كان سيتمكن الغربيّ من التضحية بمآسيه لخلق الفنّ؟

هو ظنّ أنه كان سيتمكّن من ذلك بالفعل. ففي يوم، وبعد صحوة روحيّة، اكتشف أنّ الحيوان المنويّ لصاحب المأساة، سينتج طفلًا شرعيًا أطهر من ابن الحرام الأجنبيّ. فقرّر رمي مسؤولية التّلقيح الفنيّ على الجثث التّي قتلها، بدل أن يصورها، كما كان يفعل سابقًا. وتكمن مشكلة الغربيّ الأساسيّة بظنّه المعرفة المطلقة لمصلحة الغير. فكما ظنّ أنّه يأتي الدّول "المتخلفة" الحضارة، لينقل حياة المتأخرين إلى الأمام، لأنّه المفرّق المنزَل بين الفَضل والأفضل، كذلك ظنّ أنّ بإعطاء الجثث حقّ التّعبير عن موتهم بإجلاسهم على كراسي الإخراج والكتابة يهديهم، والحمد لله، فرص أفضل تقيمهم عن "جثاثتهم". كان ليكون تخلي المتعدي عن ضحية اغتصابه فكرة جريئة عصريّة، لو لم تكن أيضًا ساذجة ناتجة عن جهل بواقع جماد الجثث. فبويضة المأساة تتلقح بالمشاعر وبفهمها، لتنتج الفنّ طفلًا لها، أما الجثث فمشاعرها وحياتها كأجسادها: متجمدة. أه ولو كانت تمتلك شعورًا واحدًا فقط، فهو الخوف من رميّ جثث أخرى، فوقها فتدفن جماعيًا أو تحرق فتخسر حقّ التّبسم الأخير عند تدافع النّاس لحمل تابوتها تأكيدًا لأنفسهم استمرار حياتهم.

ولذلك ورغم ظنهم العلم، فهم جاهلون. فلو التّقوا ببعض الجثث يومًا لما وضعوها على كرسيّ الإنتاج، ولا كانوا طلبوا من أي حيّ حتى أن يفنّ يوميات وجعه. فالحيّ يحاول فقط النّجاة بكيانه. فكيف له أن ينحت تمثالًا للوحش الذي يلاحقه أثناء هروبه منه؟ كيف لمن يهرب ويجري أن يستطيع إلا الصّراخ؟ إنهم لا ييقنون أننا شعب يهرب ويصرخ باستمرار. وما إن ننجوا من وحش ونبدء بالتّقاط أنفاسنا حتى تأتي وحوش جديدة تلاحقنا فنبدأ بالجري مجددًا. فنهرب من الانتداب وننجو منه بما يزعم ويسمى بالاستقلال، فينقض وحش الحرب الأهليّة علينا. وما إن تضمئلّ قوته، حتى تأتينا وحوش الاغتيالات، فالحروب الإقليمية، فالأزمات الاقتصادية، فنهرب من أنياب وحش لنجد أنفسنا بين أنيب آخر. لذلك، امتد صراخنا لسنين حتى أمسى "بحّات". فلو أرادوا فليجعلوا من بحّاتنا فنًّا. فليسجّلوها، وليقسّموها بين بحّة قلق وبحّة خوف، وبحّة انفجار، وبحّة انهيار، وبحّة عذاب، بحّة فقدان، وبحّة موت، وبحّة استشهاد، وبحّة ارتقاء، وبحّة صباح، وبحّة ظهر، وبحّة مساء، وبحّة أرق ليل تخترقه أصوات الطّائرات الحربية. فليسجّلوا البحّات وليسموا الإنتاج أيّ اسم رومنسيّ يرضي رغباتهم السّادية، وليعرضوه في مناسبات السّجدات الدّموية. فنحن لا نكترث لأصنامهم الذّهبية، ونحن متخليون عن بحاتنا الفنية.

نحن نريد فقط أن تدفن جثثنا فرديًا، وأن نفنّ ما يحلوا لنا بسجية، من دون أصفاد من يدعي الهداية إلى سراط الحرية، وفي يديه مفاتيح قفول أقفاصنا الذهبية.

لذلك، كتب هذا المقال "ببحّة" من "بحّاتي". فلا أحد أحق مني باستغلالها إلى أن أعود و أكتب بصرخات عالية، عند ارتياح أحبال الصوتية من الكواتم الغربية.

Ghida Mouazen

غيدا مؤذن دكتورة في صيدلة. حاصلة على شهادة ثانية في اللغة العربية وآدابها. هي مهتمة بكتابة المقالات المعنية بالمجتمع والواقع الإنسانيّ وفلسفته

Dr. Ghida Mouazen is a pharmacist with a medical degree. She is currently completing a second degree in Arabic Language and Literature. Her articles deal with social issues, humanism, and philosophy.

Next
Next

Don't Forget The Genocide in Gaza - لا تنسوا إبادة غزّة